الجمعة، 6 سبتمبر 2013

دارنا الدمشقية






 












  دارنا الدمشقية    
- نزار قباني

(لقد وجدت في هذا النثر لنزار قباني ضالتي في الحديث عن دمشق و عن بيوتها العتيقة
التي أسأل اللـه لها الحماية من شرور الحرب الدائرة الآن في حاراتها و أزقتها التي طالما
رتعتُ فيها و سلكـتُ  أ فياءها و لا تزال تسكن في مخيلتي . دمشق الأصالة..دمشق التاريخ
و الأمم ..دمشق التي شربتُ من فيجتها و أكلتُ من جنى بساتينها ..دمشق التي نفختْ بي
روح المحبة و صقلتْ خيالي و زودتني بطفولة سعيدة في أحياء الصالحية و الميدان ..
في الحميدية و مدحت باشا و السروجية  و الربوة و العين الخضراء و.....ضفتي بردى !
دمشق التي أوصتني ألا أنساها .. ولن أنساها ! و كيف ينسى الإنسانُ روحـه ) !!

قال نزار:
لا بد من العودة مرةً أخرى إلى الحديث عن دار (مئذنة الشحم) لأنها المفتاح إلى شعري, و المدخل الصحيح إليه. و بغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة, و منتزعة من إطارها.هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلمُ  قارورة العطر ..
و إنما أظلمُ  دارنا.
و الذين سكنوا دمشق، و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة،  يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...بوابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكي, و تبدء سمفونية الضوء و الظل و الرخام.

شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض ، علقتهم على قضبان النوافذ..  و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أ ُسُود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..
الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. و الليلكة تمشط شعرها البنفسجي, و الشمشير, و الخبيزة, و الشاب الظريف,و المنثور, و الريحان, و الأضاليا.. و ألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها و لا أتذكر أسمائها.. لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب..

القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها و رومانتيكيتها بحرية مطلقة, و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يطعمها و يكفكف دموعها.. الأدراج الرخامية تصعد.. و تصعد..على كيفها..و الحمائم تهاجر و ترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟ و السمك الأحمر يسبح على كيفه.. و لا أحد يسأله إلى أين؟ و عشرون صحيفة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كل زر فلٍ عندها يساوي صبياً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها..بكت..و شكتنا إلى الله..

***
ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. و لدت, و حبوت, و نطقت كلماتي الأولى.
كان إصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة.. و إذا سقطت أسقط على حضن وردة..
هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري و أفقدني شهية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيان في كل الحارات.. و من هنا نشأ عندي هذا الحس (البيتوتي) الذي رافقني في كل مراحل حياتي.
إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي, يجعل التسكع على أرصفة الشوارع, و اصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال, عملاً ترفضه طبيعتي.
و إذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكاديمية المقاهي, فإنني لم أكن من متخرجيها.
لقد كنت أومن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة, له طقوسه و مراسمه و طهارته, و كان من الصعب علي أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجاد من برابيش النراجيل, و طقطقة أحجار النرد..
***
طفولتي قضيتها تحت (مظلة الفـَي و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي.. كان الصديق و الواحة, و المشتى و المصيف..
أستطيع الآن  أن أغمض عيني و أعد مسامير أبوابه و أستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعدَّ بلاطاته واحدةً..واحدة.. و أسماك بركته واحدةً..واحدة.. و سلالمه الرخامية درجةً..درجة..أستطيع أن أغمض عيني, و أستعيد, بعد ثلا ثيين سنة مجلس أبي في صحن الدار, و أمامه فنجان قهوته, و منقله, و علبة تبغه, و جريدته.. و على صفحات الجريدة تساقط كل خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حب قادمة من السماء..
على السجادة الفارسية الممدودة على بلاط الدار ذاكرتُ دروسي, و كتبت فروضي, و حفظت قصائد عمرو بن كلثوم, و زهير, و النابغة الذبياني, و طرفة بن العبد..
هذا البيت-المظلة- ترك بصماته واضحة على شعري.
( و بعد ، فقد كتب نزار بعض ما بمخيلتي عن دمشق الشام ، بل ما كتب هو صفحة واحدة من كتاب ٍ أحفظه في قلبي عن بيوت الشام القديمة الجميلة و حاراتها و أهلها ..اللهمّ احفظ شامنا
و أهلها .. فالشام عزيزة عليَّ كـأهلها ) .