بائـعة التـُوت
في إحدى الزوايا
و على رصيف الشارع المؤدي إلى (الحِـسْـبـة
) في وسط مدينة إربد ، جلسَتْ ، و هي تحتضنُ سَـلـَّـة ً من التوت الأسْود ترقب كل عابري السبيل .. تدعـوهم بنظراتها
المنكسرة للإقتراب و تذوّ ُق حبة ٍ أو حبّـتين ولو لم يتمّ بعد ذلك الشراء ! قروية
والتسامح من شِـيَمهـا ، غريبة و الأدب يزين أفعالهـا . كانت أطراف السلـَّـة
مغطـّاة ً بورق التـوت كما هو نصف وجه تلك البائعة مغطى بلثام ٍ تخفي فيه شخصيتـها .. ربما حيـاءً .. ربما خوفـًا ، أو ربمـا درءًا
للمتطفـّليــن .. فاللثـامُ و ورقُ التوت يستران ما تحتهمـا .
لم تـُنادِ
تلك المرأة على بضاعتها كسائر الباعة و إنـّما
اكتفـتْ بـِصَمْـتـهـا و انطــوائها تاركـة ً للسـلـّـة التحدث عما فيهـا ..
عشـَراتٌ
من المشاة يمرّون أمامها.. فهذه تشـُدّ يـَدَ
طفلها الذي لا يستطيع اللحاق
بخطوات أ
ُمـّه ، و هذا يتكيء على عكازه محاولا النزول عن الرصيف ، و تلك
تغـُذ ّ السـير
ربما لاقتراب موعد ٍ لها مع الطبيب ، و آخرون
ينزلون من سيارة ٍ فيغلـِقُ أحدُهم باب
السيارة بعصبية ليرفع من شـأنه بين جماعته
. أما على الزاوية
المقابـِلة
فكان بائع شراب التمر الهندي يقف حاملا جـرَّتـه و مفرقـِعًا فناجينه
و مُناديًـا
على شرابه الشافي ، بينما كانت كتلة ٌ سوداء من ريش النعام تمـيل مع
مَـيْل الجـرّة
كلما صبّ كأسًا لزبُون ..
سوقٌ
حافلـَة ٌ بالناس .. نداءاتُ باعة اللحوم و الأسماك و الخضار تصُمّ الآذان ،
لكنهـا
وحيدة ٌ صامتة .. تنظر إلى حافـّة السلة تارة ً، حيث يتدلى ميزانٌ زمبركي صغير و
كأسٌ من المعدن ، و إلى أقدام المشاة المتحرّكـة تارة ً أخرى !
كانت في الأربعين
، أو ربما في الحادية و الأربعين ، أ ُمـّـًا لفتاتين ، و كانت
زوجة ً - في دفتر العائلة فقط - لـِمُتوفـّى في حادث سير قبل خمسة أعوام ..
رسَم الفقرُ
و الشقاءُ على راحتيها جفافا و خشونة ، و ترَكـَت ِ الهموم ُعلى جبينها
آثارَ
أربعة ِ عقود أظـْهـرَتْ جـليـّا ظـُلمَ الأيــام
لسيـّـدة ٍشـاءتْ لها الأقـدار أن
تفقـد رفيـقَ
دَربـِها .
نشـأتْ ( نعيمة
) طفلة ً يتيمة في بيت عمها في إحدى قرى جبال عجلون بعد
وفاة
والديها عند عودتهما من الحج . لم يبخل عليها عمّـُها بوافـر المأكل و الملبس
والذهاب إلى المدرسة حتى أكملتْ دراستها الثانوية
. لم تكن إلا ثلاث سنوات عِجـاف فصَلتْ نعيمة عن
( شاهر ) ليكـون بعدها الإثنان أسـْعـدَ زوجين في
القرية .
(يتوقف
الآن رجلٌ أمام السلـّة .. ينظر إلى
اللثـام .. يكشف أوراق التوت عن
وجـه
السـلـّة .. يذوقُ حبـَّة ً .. يسـأل عن سعـر التوت ، فيجـِدُهُ غاليـًا.. يمضي
في طريقه
).
عاش
الزوجان في بيت السعادة ردَحـًا من الزمن تـُـوّج بولادة الإبن الأول لهما .
حينها نذر
شاهـر نفسه ليكون ربَّ الأسرة المثالي ، زوجًا مخلصا و أبـًا حانيـًا حتى
أصبح عدد
أفراد العائلة خمسة ، يتمتع كل منهم ببساطة
العيش ، غير أنّ القناعة
كانت رائدة المسيرة للجميع .
في إحدى الأمسيات و بعد أن فرَغتْ نعيمة من
إعداد طعام العشاء منتظرة ًوصول
زوجها و
ابنها من سوق إربد ، حيث حان وقت وصولهما ،
سمعَتْ نعيمة جلبة ً
في الزقاق
المحاذي لبيتـهـا .. فزعتْ للصوت ، فرفعت
ستارة النافـذة و نظرتْ
إلى مكان الصوت !! ..
خمسة عشر
عاما أهدَتْ لهذه الأسرة فريدَ المحبّة و نادرَ
السعادة.. وكانت لا تزيد
عن عُمْر
الولـد البـِكـر ( عبـّـُود ) إلا سنة ً
واحدة . كان عبـّود ذراع أبيــه الأيمن يساعـد والده في جمع الخضـار و الفواكه
من المزرعة ليتمّ إرسالها في (بيك آب)
العائلة إلى سوق إربد عصر كل يوم .. إلى أن شاءت الأقدار أن يذهب الإثنان
إلى السُــوق
بحِمل ٍ من التفـّاح دون أن يمنحهمـا القـدر فرصة الرجـوع !
قبيل
الغروب ، و بعد أن باعت نعيمـة آخر كيلو من التوت ، حملت نعيمة سلـّتهـا
بعد أن
اشترت بعض لوازم البيت و لكنها لم تنس طبعـًا ما أوصتها به ابنتاها من لوازم
مدرسية و حلوى .. ثم قفلـَت راجعة ً نحو
قريتهـا .
و أثناء سيـر الحافلة نحو القرية استرجعَتْ نعيمة حادثة
تلك الأمسية حين كان
طعام عشاء
العائلة لم يزل ساخنا ، و حين سمعتْ طرقـًا
قويـّـًا على الباب لترى شـاهر و عبـّود محمولين على نقـّالتين و قد فارقا الحيـاة في
حادث سيـر ٍقرب الحِـسبة المركزية في إربـد .
وضعتْ
نعيمة رأسها على زجاج نافذة الحافلة ثم أرسلتْ بدمعتين تستطلعـان
بنزولهما اصفرار و جنتيها المُتعبـَتين .. مسحتْ
نعيمة الدمعتين بظاهر يدهـا
ثم نظرتْ إلى الأفق البعيد و قالت هامسـة ً : إنا للـه و إنا إليه راجعون !
اللهم ارحم شاهر و عبـّود وأعـِنـّـي
على تربية ابنتيَّ و اجعلهما لي سـِترًا
من النـّار
! و صلّ ِ و سـلـّم على سيدنا مُحمد ..آمين .