الجمعة، 8 مارس 2013

سلمى 2

سلمى 2
د. فايز أبوالكالس





















... وما أن اعتلَت الشمس كَبد السماء ،  وكفّ عازفو الربابات عن الغناء ،  حتى اشتدّ الهـرج والمرج ، وارتفعت اصوات النساء بالنداء ، واحدة تَسأل عن الخُرج ، وأخرى تبحث عن السكاكين وحفارات الكوسا التي كانت في الدُرج. يصرخ صبي من بعيد : وين قمصاني يا ناس! ويزأر أحد الرجال بصوت ثخين ، ماطّـا ً شاربيه ، اللذين وصلا  إلى أذنيه: يا بنات ! لاتنسِن الملاقط والمقصّات ! الجميع يتحفز للرحيل ، والعرَق من الجباه يسيل ، بينما كانت الحمير تقف صامتة ، وفي الجموع شامتة ، لأنها بعد قليل ، ستحمل الخفيف والثقيل ، من خرابيش وغرابيل.
أما شيخهم الجليل ، والتي كانت النساء تخاطبنه دائماً " يا قبّاري " ، فقد توشح بالعباءة ومن  تحتها لَبِس الصداري ، وأخذ من تحت مخدته كل المصاري . خرج من خيمته بعد أن أطفأ اللهب
وفي فمه لمعت أسنان الذهب ، ثم وقف يرقب تحميل الخرابيش ، والفؤوس والشواكيش،بحاجبين ارتاح عليهما عقالُه ،  وخفّين يغطيهما سروالُه . شيخهم هذا حلاّل المشاكل، صاحب الخيمة التي تمتليء بالمقاليع والشناكل ، هو  رمزهم  الوحيد وعزهم التليد.
كانت حرارة شمس الظهر لافحة ، وعندما مرت الحلوة " سلمى" بالشيخ  قالت مازحة:
 شو على بالكم يا رجال ! ماكلين شاربين  ومن الشغل هاربين ، و  لولا تعب النسوان ، ما كان إلكم بهالدنيا مكان ! فقال لها الشيخ :  إحنا هيك يا سلمى !  لولا قوس الربابا ، والمـِيجَنا والعتابا ما أكلتِ خبز ولِكْ يابا  !  انقلعي من هون أحسن ما ... !
تجمع الرجال وأعلنوا الرحيل ، وبدأ حصان الشيخ بالصهيل ، وغادروا المكان . ولم يبق هناك خرابيش ، وإن نظرتَ فلن تشاهد إلاّبقايا الرماد وبعض الريش .
امتطى الرجال صَهوة َالحمير ، والنساء من خلفهم على الأقدام تسير، تضع النساء اطفالهن على ظهورهن في جراب ، لاترى من الأطفال إلاّ الرؤوس ، فكانت واحدتهن كالكنغر المعكوس.
عبرت القافلة الحدود - طبعاً دون إبراز أوراق ٍ أو قيود - فالنَّوَر لا يتدخلون في السياسة، ولا يهتمّون بالحراسة، الحريةُ متنفسهم ، والديموقراطيةُ يعرفونها دون دراسة.
حياتهم يوم بيوم  ،  وهم في الحقيقة قوم ٌ وأيُّ قوم !  وما أن  وصل الجميع أرضاً خضراء ، حتى نادى الشيخ : يا نساء !  إملأن القِـرَب ، واجمعنَ الحطب . وأنتم يا رجال ! شدوا على الخرابيش الحِبال! ... وبعد ساعة من الزمن كانت النيران مشبوبة ، والقهوة في الفناجين مسكوبة  والطعام يغلي فوق النار ، وارتفع صوت المزمار ،  وكأنّ كل الرحيل ما جرى وما  صار .
وبعد أن  تناول أفراد الجماعة طعام العشاء ، تناول الشيخ الربابة ، وأخذ " مرزوق " الشبـّابة وبدأت سلمى بالغناء :
عبرنا الشمال وأرض الجنوب جـُلنا
صحاري البدو وسهول الحضَر إ لنا
ارجالنا ما تعودوا شيل الهموم
ولا إحنا للهـَم  يوم  شـِلنا
وِنْ مالَت الناس للمال.. إ حنا
عُمُرنا للمال ما يوم ..  مِلنا
إحنا النـَوّر يا طيب عيشتنا
كلمة حسد للناس.. ما قلنا
وعند العاشرة أ ُطفئت النار ،  وسكت صوت المزمار . كلّ فرد إلى فراشه عبر ، ولم يبق ساهراً إلا ضوء القمر ، يداعب بنوره  أساورَ  سلمى (أم عمـر) و  ذراعها تحت رأس (أبي عمـر).