وداع سلمى
(د. فايـز ابو الـكـاس)
وقفتْ ( سلمى ) أمام خيمتها قبيل الغروب
تتأمل شمس الأمن و الأمان وهي ترتاح
على قمة الجبل البعيد بعد جولتها
الظاهرية من المحيط إلى المحيط و التي دامتْ نهارا ً كاملا أدفأتْ به كل كائن حي على وجه البسيطة حيث ستهبط بعد قليل إلى العالم السفلي رويدا رويدا تودع سطح الأرض كمن يودع حبيبا ً له ، فيتباطأ بالوداع ليغتنم منه نظرة أو اثنتين تساويان عنده كل ما مرّ من فترة اللقاء .
قالت في نفسها : سأحزمُ مع القبيلة غداً (زادي و زُوّادي ) فلم تعـُد هذه البلاد بلادي و سنغادر المكان لأنني أخاف كثيرا ًهنا على زوجي و أولادي .
بقيتْ سلمى في مكانها حتى ظهـَرَ الشفق ثم دخلت الخيمة بدمعة لم تتسعها عينـُها فنزلتْ على خدهـا حار ّة ً لتمسحها بكـُم ّ ثوبها . الغروبُ والرحيل و الوداع أ ُمور تشـُقّ ُ على نفـْس كل من تذوق عشق المكان و أهل المكان.
دقت الساعة تمام الثامنة مساءًا فتحت عندها سلمى جهاز التلفاز لتسمع نشرة الأخبار. قال المذيع بصوت متهدج وربطة ُ عنقه تكاد أن تخنقه حتى بدَت عيونه جاحظة و أوداج ُ رقبتـه منتفخة فأصبحت رقبته أثخن من كل مرة رأتـْه بها سابقا ً :
سيداتي سادتي إليكم نشرة الأخبار أبدأها بالموجز .
قصفت القوات التابعة لــ......مقتل خمسة جنود تابعين لــ..... المسيرات المناوئة لـــ.......البلطجيون ... ، الجيش .... ، قوات الأمن تقتل .... ، طائرات .... دبابات
جـِمال .....دراجات نارية .........حشود.... مرتزقة.......
ثم تظهر أثناء تفاصيل الموجز مناظر الدماء في الطرقات ... مناظر لرجال يعصبون رؤوسهم المجروحة.... دخان......هتافات......رايات .... .جثث........فساد..........
كل ذلك يحدث بين عشية و ضحاها . لا أكاد أصد ّق !!! لا بد أن وراء الأكمة ماوراءها !!!
نظرت سلمى إلى ابنها ( عمر ) الذي لا يتجاوز الرابعة وابنتها (حـَنين) التي بلغت قبل شهر سنتها السابعة يغطـّان في نوم عميق لا يلويان على شيء مـما ذكره المذيع بينما كانت الصغيرة (وفاء ) ذات السنتين تنظر إلى الشاشة ببلاهة . قالت سلمى : ماذا لو وصلتْ هذه الفوضى مضارب قبيلتنا ؟
لا ! لا يمكن أن يحدث هذا ! نحن الغجر نحب بعضنا و ليس لنا أهداف فردية. عيشنا كريم و الحمد للـه ! و الرزق على اللـه ! ثم إننا لا نبدل شيخ قبيلتنا بكنوز الأرض ... .لن أدَع َ أولادي يعيشون في دوامة العنف و العنف المضاد اللذان يعودان في الأساس إلى مصالح ذاتية ضيقة و أفق عفن ٍ و خيال سقيم و ادعاءات زائفة و اختباء وراء شعارات كاذبة و أفكار هدامة و فساد متأصل . أولادي هم مستقبلي و رجائي.
سنترك ُ المكان غدا ً رغم حبـّنا له . سنترك فيه أحبة لنا و أصدقاء يذكروننا بكل خير و يجعلوننا مواضيع لمقالا تهم و حكاياتهم . في الصباح الباكر سنشـد ّ الرحال إلى موطننا في آسيا الصغرى فالهدوء هناك يعم المكان ثم إنه لا غنى لنا عن وطننا القديم وترابه . و سنعود إليه معتذرين عن طول الغياب ، فالوطن يحتاجـنا كما نحتاجه لأن ّ وجودنا من وجوده . ثم راحت سلمى تـُتمتم بأغنية ٍ طالما أحبتها :
على دلعونا على دلعونا بـَيْ بــَيْ الغـُربة ْ الوطن حنــُونا
.............. .........
.................... حتى قالت :
يا ربي اطـّلـّع يا ربـّي اطـّلـّع ْ الخـُشـّة ْ زَغيرة ْ و البابْ امخلـّعْ
شِــيــّابْ الدير ِة ْ صارتْ تـِد ّلع ْ كـُلْ يومْ بـْنهفـِـة ْ تا طهّــقـونـا