كـواكِـب (تـتمـة)
د. فـايـز ا بـو ا لـكا س
سأكمل اليوم قصة كواكب التي كنت اختصرتـُها
لطول السـرد .
ــ لا تـْـأ ُولْ وداعـًا إزا ابـْـتـِـسمـَح ْ!
بَعدْ ما اسْمـِعتْ كلامَكْ يا صِـيـّاد ،
حابـِبْ عـرّفك ْعلى إمّي وبـَيـّي .
ــ ولكن... ! أنا... ! ما... !
ــ إلـْحـَــأ ْني يا ز َلـَمـِيْ ! يــِه ْ !
ساقتْ كواكب رؤوس الماعز أمامهـا ، أما أنا فقد حمـَلتُ أمتعتي و ...تبعـْتـُهـا
(ماذا أفعل ؟ كانت جميلة و ذات شخصية مؤثرة ــ قـُل ماشئت) . و على الدرب
جرى على قلبي الحديث التالي : ما الخبر ؟ كيف أزورأناسًا لا أعرفهم ؟ ما ذا سيقول أهلها ؟ كيف أدخل بيتهم دون هدية ؟ و لكنني مجرد صياد عابر ! أخاف
أن يفتقدني صديقي في فندق المدينـة ! ربما لا أجد سيارة تنقلني إلى هناك لو
تأخر الوقت !! ....و بالقرب من نبع المـاء كان البيتُ الورديّ في الإنتظـار .
في وسط ساحة البيت كانت أم كواكب جالسة على كرسي خشبي صغير و بيدها
مدقـة من الخشب و أمامهـا هاون كبيرمن الحجر ...أسموه جـُرنـًا . كانت تصنع (الكبـّة النيـّة ).التفتـَتْ المرأة نحو كواكب... ثم نحوي... ثم ابتسمَـتْ قائلة ً:
ــ أهـْلـِه و سَـهـْلـِه ْ بالضَيفْ ! ثم نادتْ : يابـُو اكويـْكـِبْ !
خرج أبو كواكب من الغرفة القريبة بصدريـته المخططة وسرواله الأسود،
نظر نحونا بعين واحدة بينما أغمضَ الأخرى قليلا ، تقدم سائلا :
ــ مين الضّـيـْف بابا يــا كـْويـْكـِبْ ؟
ــ غـريب يا بـَيـّي !
ــ ما غريب غير الشيطان . أهـْلـَـه ْ! أهـْلـَـه ْ !
دخلتُ البيت و عرّفتُ الجميع على نفـْسي . علـّـقـَتْ كواكب سجادة الصلاة على الحائط ، مسَحتـْها بيدها من الأعلى إ لى الأسفل ، ابتسمَـت ْ بإعـْجـاب ٍ ثم
خرجـَتْ . لم تمض ِ فترة طويلـة حتى كان غداؤنا جاهـزًا ..كبـّة نيـّة و كبـّة بالصينيـّة و بعض أقراص الكبة المشويـّة ، سلـَطات ، زبدة و عسل جبلي و كان
على المائدة معي أبو كواكب وثلاثة من جيران الحي .
أحببت ُ المكان و أهلَ المكـان . بيت ٌ جميل يطلّ على الجبال المُعمـّمـة بالثلج ،
عبق أشجار الزيزفون ، أشجارٌ خضراء و مياهٌ جارية ، هدوء و بساطـة في كل شيء ، أحسـستُ أنني أمتلك البيت و الطبيعة المجـاورة و ... كواكب !
لكنّ كواكب ليست لي ! إنها لوالديها و لعريس المستقبل الذي تسمح له ظروفه بالعيش هنا ...
أما طعام العـشـاء فكان في بيت الجار (أبي ملحـِمْ ) الذي أصرّ على عمل العشاء لنا بعد معرفته بأنني ضيف أردني في قريتهم . و باختصار شديد قررتُ قضاء تلك الليلة في أحضـان القرية .
بعد تناول طعام العـشاء عند (أبي مـِلحـِم ْ) و المكوّن من التبـّولة ومشوي السمَـك
و الطرَطـُور. و تحت دالية عملاقـة مزروعة بجانب المصطبة في صحن الدار
و مع شـُرب أكواب( المتــّة ) أمام منقل ضخم من الحطب المشتعل تناول أحد الجالسين الدف وبدأ بالنقر عليه ثم تبادل مع جـارَيْـه ِ بعض أبيات ٍ من الزجل :
ـــ أ ُوفْ .. أ ُوفْ .. أ ُوفْ !
أ ُرد ُنْ يـَـأ ُردُن يا ، أحْلى سَمـَا و انـْجـُومْ
و ِلـْضَـيـْفـِـنا ابـْهـَاليـَومْ ، خَـضـّرْ شَجَرْ لـِـكـْــرُوم ْ
كـِلـْشـِي لـِنا ياناسْ ، إمْـأ دّرْ أ ُو مَـأ ْسـومْ ( قلت له : مـَأ ْسـوم ْ !)
ليْشْ الأسى و الهـَمْ ، ليْشْ الزعـَلْ و اللـّـُـوم ْ
ـــ أ ُوفْ .. أ ُوفْ .. أ ُووووووووفْ ، يـابـا !
لـِبـْـنانـْـنا أَحـْلى بـِزْيـار ِة ِ الخـِلا ّنْ
والميجَـنـا عَـلـّـِتْ عَا طـَلـّـِة ْ الإ ِخـْوانْ
ما دامْ جَمَعـْنـا الحـُبْ واتـْعَـطـّر ِ ابْــنيسـانْ
كـِرْما إلـَكْ يــا ضيـْفْ صار السـهـَرْ عنوان ْ
ــ أ ُوفْ .. أ ُوفْ .. أ ُووووووووفْ ، حبيـبي ! ( قلت له : حبيبيْ !!)
يا ضَيـْفــِـنا خلـّيــكْ في هَـالــبَـلـَدْ مـِخــتـارْ
تـَنـْصيرْ إلـَكْ أصحابْ أ َوْ نـُعـْتـَبـَرْ جيـران ْ
يُنـْشـُـدْ لـِنا الأردنْ من مـُصطـفى العـَرَّارْ
و ِ يـِطـْرِبـَكْ لـِبـْنـانْ مـِن ْ ( أشـْعـِرة ْ ) جـُبـْرانْ
قال أحدهم : هات يا ضَيـْفنـا سمـّعنـا !..
انتبهتُ لوقوف كواكب في زاوية المصطبة منتظرة ً ما سـأقول و لم أكن أجيد
شـِعر الزجَـل ولكنَّ الإلهـام بوجودهـا ساعدني فقلت على زجل الميجنـا :
ـــ ميجـَنـا وْ يا ميجَنـا وْ يا ميجَـنـا
حـَنـّـُوا الحبـايبْ عـاتبـُونا اصْحـابــِنــا
(وردّ الجميع : حـَنـّـُوا الحبـايبْ عاتـبـُونا اصْحـابــِنــا) .
طيـف ِ الحـِلـُوْ مايـُـومْ عـَـا أ َلـْبـي أمَـرْ
إلا نــدَهـْتْ اسْـهيـلْ أ ُو ناجيـتْ الأمَــرْ
حُبـّـُهْ سَــآني الويلْ لا و الحنظــلْ أمَـرْ
هـُـوّ ِهْ نـِسـينـِي اوْفـَلْ مانـْسيتـُــو أنــا
يا ميجـــنا يا ميجـ ................نا
و استمر العزف و الغنـاء حتى ساعة متأخرة من الليـل بينما كانت كواكب
بمساعدة ( أم ملـحـم ) تقوم على خدمة الحضور بتقديم عصير الفواكه و مشوي
الذ ُرة و في كل مرة تدخل بها كواكب المصطبة يتفتـّح ُ ثغـرُهـا على الحضور بابتسامة سرور لوجودي بينهم . سـرحَتْ أفكاري لـِلحظـات ٍ تـُهتُ فيها بين همس
القلب و صراخ العقل ... ماذا سيحصلُ لو أصبحَتْ كواكب زوجتي ، إنهـا جميلة
و سأكون إبنـًا للعائلة ؟ الحياة هنا بسيطـة و الطبيعة خلابـة . ولكن ! هل أترُك
دراستي و أهلي ؟ لن تـترُك هي أهلهـا ! آه ! سأعِدُها أنني سأرجع بعد عام . لكنْ
ماذا سأعمل هنا في القرية ؟ هل سأنـْطـُرُ الكـُرُوم ؟.....لا أستطيع التفكير !
انتبـه َ لشـُرودي أبو ملحم فقـال:
ــ وَيـْنْ يا ضيـْفنا سـَرَحْتْ ؟ و أجبتـُه فورًا:
ــ مع المَاعـِز ْ . ضحكَ الجميع ، و بعدها غادرنا بيت أبي ملحم شاكرين ثم
قضيتُ ما تبقى من الليل في حجرة أبي كواكب و عند الصباح ا ستأذنتُ بالمغادرة
بعد أن تناولتُ و حسْب طلبي كأسـًا من حليب الماعز فقط . حملـْتُ أمتعتي و
ودّعتُ أهل البيت آملا أن يجمعنـا اللـه مرة ثانيـة . سارت معي كواكب حتى
بعض الطريق والأسى باد ٍ على وجهـهـا ثم قالت :
ــ إنشَـلـّلـهْ ما أصـّرْنا مـَعـاكْ ! اجـْعـلـْـها ابـْعـَوْد ِي ْ !
ــ لا ! أبـدًا . أنا شاكر لكم جميعـًا من كل قلبي و لن أنسى فضلكم ماحييت.
الحياة يا كواكب ساعات قدّر اللـه علينـا فيهـا كل شيء . من يدري ما يخبىء
المستقبل لي و لك ِ وللناس أجمعيـن ؟
وداعـًا يا كويـْكبْ للمرة الثانيـة !............ قالت :
ــ وداعـــًا .......! ولم أدْر ِ ما الذي لمـَع في عينيهـا . هل كان بريقُ الأمل أم دمـْعُ
الألم ، أم..... كـِلاهـُمـا !!!
====================