كـوَاكــب
فـا يـز ا بـو ا لـكا س
في إحدى القرى الجبلية اللبنانيـة الجميلة حيث تـُعانـِقُ الغيومُ سطوحَ المنازل
ليلا ً ثم تتركهـا مودّعـة ًعند ابتسـام شمس الصباح ، و حيث تبني الصقورُ
أعشاشها على حـِفاف ِ الصخور ويملأ طائرُ الشحرور فجْرَ القرية بعزفه
المنفرد ، يرقد بيتٌ وردي ّ ٌصغير في نهـاية درب ٍ تكسـُو جوانبـَه أشجارُ
التين و التفاح و الكرز ...في هذا البيت تسـكنُ راعية ُ المـاعـز (كواكب).
كان لـكواكب ، ذات السبعة عشر ربيعًا ، والدان عجوزان قامتْ على خدمتهما
ثم تولـّتْ رعايـة َ مجموعة من الماعز لتزويـد العائلة باللبن . و بوجود بستان صغيرمليءٍ بأشجار الفاكهـة و الخضار كانت العائلة تـُنتج قسـمًا من طعامهـا .
كانت كواكب تتفجـّر جمالا و حيويـة ... قامتها الرشيقة أينـَعتْ بفعل ماء النبع القريب و بهواء الجبال النقي وبثمر التوت البرّي الأحمر . كانت تحبّ ُ التوت
البرّي وكانت حباتُ التوت تزهو بين أناملهـا. عيناها خضراوان بلون أشجار الأرز التي ملأت التلال المحيطـة . جديلتاها بلون ليل الغابة القريبة .
صوتـُها صاف كصفاء بـِرْكة الماء الصغيرة التي تتجمع مياهـها من عين ٍ
انبجَس ماؤهـا من قلب الصخور ...كان يحلو لها الجلوس أمام العين وهي
تطلق للريـح ِ صوتها الجبلي( بـالميجَنـا ) وموّال (هيهاتْ يابو الزلف)
بلهجة قريتهـا ثم تـُتبـِعُــه بزغرودةٍ ترقص لها الأغصان فيهُبّ ُ النسيم
نشوانـًا و تبدأ الطيور بالتغريـد . كنتُ في القـُرب ... استمعتُ للمـوّال حتى
نهـايته ...
هيهاتْ يابُو الزّ ُلـُـفْ عَـيْــنــي يا مـُـولـَيـّـا
ناجَيـْــتْ ربّ ِالسّـمـا طل الحِـلـْو ِ اعْـلـَيـّـا
ــ صباح الخير . هل تسمحون لي بالصيد في منطقتكم ؟ لقد أخبرني بعض
الأصدقاء بوجود طيور الحَـجَل في هذه التلال .( كنتُ شـابا وسيمـًا أرتدي
ملابس الصيد و القبـّعة وأضع النظارة الشمسية وأحمل على ظهري جعبة ً
صغيرة ً فيها كل ما يُهـِم ّ ُ الصياد من لوازم ) .
ــ بـُونْ جـُور...! مافي مـِـيـنـِع ْ، ولكنْ ابـْـشـَرط ْ ! تـَعطيني نـُصْ صَـيـْد َكْ.
ــ اتفقنـا .
ــ كـِلـْهـِنْ بـِـيـأ ُولـُوا هـَيـْكْ ، أ ُو بَـعـْدَيـْنْ ما بْعـُودْ شـُوفْ إلهـُنْ و ِشْ .
ــ (همـَسـْت ُ: كانوا مـجـانين) لا ..! سأرجع بعـد الظهـر بحول اللـه !
..وهذا وعـد !
ــ تـَـنـْـشـَوْفْ !!!
و ما أن ابتعدتُ قليلا حتى أمسكـَتْ بـجَـدْي ٍصغير من القطيـع أخذتْ
تمسـحُ على رأســه ثم بدأتْ بالغـِنـاء :
يـا دَوّاريـــن الحَــجـَـــل ْ و ِالأ ُمْر ِيْ امْعـَـبّـــا الد ِيـر ِيْْ
خلـّـُوا الحَجَـل بـِهـْمـُومـُو لا تـْزيــدوا ابْــأ لـْبـُو الحـِـيـر ِيْ
فأجبتـُها على الفـَور و بـِلـَهجـَة ِ بلادي :
بـَطـّــلـْــتْ آدَوّ ِرْ حَــجَــــلْ حَار ِمْ عـَـلـَيـّــِهْ صِــيـدُه ْ
صِـيـد ِ القـِمـْر ِيْ أحـْسَـنـْلي بَـالـَّلـهْ يا رَبـّـِي اتـْزيــدُه ْ
ثم رفعـَتْ من وتيرة النغمـة قائلـة ً:
يابـُو جـِفـْتْ ابـْخـَرْطوشـَيـْنْ مَـيـّـِـلْ عـْـليـْنـا مـَيـّــِــلْ
يُحـْرُسـَكْ رَبـّي مْن ِ العـَيـْنْ و تِسـْلـَمْ إلـْنــا يـَـغـْزَيـّـِـلْ
ولما سمعتُ هذا القول رجعتُ نحو الراعية .... ( كنت ُ شـابـّا !!!)
وضعتُ البندقية َ و الجُعبة على الأرض ، شربتُ بعض ماء العين
كي ألتقط َ أنفـاسـي ثم بدأتُ الحديث :
ــ هل لي أن أعرفَ شيئـًا عنك ِ أيتهـا الراعيـَة ، فلقد شجاني صوتـُـك
و... سحَرَني جـَ .... ؟ ( لم يكن باستطاعتي لفظ الكلمة حياءً و انبهـارًا ).
ــ إسمي اكـْوَيـْـكـِبْ أ ُوْ بـَيـْتي فـَاوْأ ْ النـبـْعـَة ْ ! فيه ْ إمّـِي و بَـيـّيْ ،
و أنا بـِنـْتـهـُنْ الوَحـِـيـديْ . راضْيينْ بالألـِـيل ْ ! بـِنـْحـِبْ أللـهْ و هالوَطنْ
والحـِـرّيـة ... هَـيـْكْ انـْخَلأ ْنا !
ــ ما أعذبَ هذا الكـلام ! كلامك ِ يدلّ على أنك ِ متعلـّـمة !
ــ نـُصْ عـَنـُصْ ! ما كـَمـّلتْ المَـدرَســِيْ مـِنـْشــانْ سـاعِـدْ مـَيـْمـْـتـِي ْ !
ــ ماذا ستفعلين لو أتاك ِ شابّ ٌ يطلبُ يـَدك ِ إذن ْ ؟
ــ إدّامـُهْ خـَيـَارْ واحـَـدْ مـَفـِي غـَيـْرُو ! ا ُوهـُوّي ْ : العيـْشْ مَعـْنا
ابـْهـالبـَيـْتْ ... حتى يـِفـْرجـْهـا رَبـْنا .
ــ ليتني أسكـُنُ قريتكم ! و لكنني في عطلـة دراسية و ستفتحُ الجامعة
أبوابهـا في بلادي بعد أسبوع .
ــ ما خـَبـّرْتـْني عنْ حالــَكْ.. اوْلـُوه ْ ؟ ... مـِشْ هـَيـْك ْ الأ ُصُـول ْ ؟
حملتُ البندقية و الجُعبـة مُبار ِكـًـا بنـَظرة ٍ خاطفة ٍ خُضرة َ الأرز بعينيها ..
ــ آه ، متأسّـف !
أنا من بلاد ٍ بعيدة ، يسُـودُها الظمأ ..
لا ماء فيها ولا كلأ .
يصلـُنا الماء في الأسبوع مرّة ،
و لا نكاد نملأ به الجـرّة .
يسيطرُ علينا الطمع ،
و المحظـوظ ُ منـّا من سرَقَ و جَمـَع .
الطعنُ بالغائب ِ هـَيـّن ،
و النفـاقُ جـَلـِيّ ٌ بــَيِـّـنْ .
لا يـُجيـدُ مُـثـقـَّـفـُونا الإعراب ،
ولا يعرفون الشحرورَ من ِ الغـُراب .
الحسـدُ فينا نارٌ حارقـة ،
و الكـَشْـرة ُ علامتـُنا الفارقة ْ .
نـُلاقي الكـُرْه َ عـند الجـار ،
و الغـش ّ ُمن طبـْع ِ التـُجـّار .
عم ّ أتكلم يا ابنة الطبيعـة ِ و رُوحَ البراءة ؟
عن طلبة ٍ لا يعرفون القراءة !!؟
أم عن الواسطة و المحسوبيـّة ؟
أم عن العصبية الغبـيـّة ؟
عن الضرائب؟ عن البطـالة و الفقر ؟ عن غلاء الأسعـار؟
أم عن مرض ٍ خبيث ٍ شرع َ بالإنتشار .......؟
عن الفساد ؟ عن أكل حق الضعيف ؟
عن صعوبة الحصول على الرغيف ؟
عن غدر الصديق ؟ عن حـُفـَر الطريق ؟
أعذريني!!!
سأرجـع ُإلى هنــاك لعلـّي أجـِدُ من يصغي لكـلامي ولـو بأ ُذ ُن ٍ واحدة !
خذي مني سجـّادة الصـلاة الصغيرة هـذه للذكـرى . ضعيهـا في بيتـكم
و لا تنسوا الدعـاءَ لي و لبـلدي بعد كل صلاة .
........ وداعـًا يـا كـْوَيـْكـِبْ !!
*************