الأحد، 4 أغسطس 2013

من نشوة المـاضي (مقامة) : سلمى الغجَريَّـة في العيـد






















من نشوة المـاضي
 (مقامة) : سلمى الغجَريَّـة في العيـد

 (د. فايز ابو الكا س)

أحببتُ أن أعود لبعض ما كتبتُ عن سلمى الغجرية سابقا لتشابه الظروف فاعذروني
إن تسبـّبتُ لكم بالملل  لأنكم قـرأتم هذه المقامة في الماضي .

حـدّثنا أبو ربابـَة قائلا ً.........
وما ان أطلـّتْ شمسُ يوم العيد ، حتى وقفتْ سلمى أمام المرآة بثوبها االبنـّي
الجديـد ، كي تضع على كتفيها الشال و على رأسها المنديل، كانت اشترتهما
من سوق المدينة الطويل، في العاشر من  شهر رمضان ، الذي تملأ الشوارع
في أيامه  النسوان ،  لشراء ما يلزم و ما لا يلزم من حاجات الدار ، ومن
ملابس  للكبار و الصغار. وقفـَتْ متمايلة ً فرحة ً تـُردد بصوت منخفض:
بْها العيد بدي قـدّم اهديـّة ، لا دَهب لا وْرود جورية ... !

لا تزال  سلمى تذكـُرُ عندما دخلـتْ محل بيع  الملابس ونظرَتْ حولها فرأت
من النساء العشرات ، اللواتي بدأنَ يرمقنها بغريب النظرات ،  وفي أنفسهن
قائلات : ماذا تفعل هذه الغجرية بين النساء ؟ هل تريدالسرقة أم ياترى تريد
الشراء ؟ ! تحسَّـسَتْ معظم النساء جيوبَهن،  و اطمأنـّت على نقودِهن ،
وعيونـُهن على البضاعة مَـرَّة وعلى سلمى مرّات ، فما أسوأ اتهام الناس وما
أسوأ الإشاعـات !

لم يُعط ِ البائعُ سلمى الانتباه ، رغم ما يساورُه من اشتباه . إذ كيف يهتم بها
وهي بشكل المتسوّلة ، و في الأسواق متجوّلة ! شعر البائع بانزعاج النساء
من وجود هذه الغريـبة ، فسألهاعن طلبـها بنبرة مُريبة : خير ؟  تقدمتْ اإليه
ولما أصبحتْ منه قريبة ،  قالت: أريد ذلك الشال ،  وتلطـَّفْ بسعره فأنت
أدرى بالحال ! اشترتْ شـالا و منديلا ً ، و لم ترض بغيرهما بديلا ً. كان
الشالُ خمريا بلون وجنتيها والمنديلُ فستقيا بلون عينيها. كان ذوقها بالألوان
واضحًا ، فقد كان ثوبها بُنـّيـًا فاتحـًا .

لم تمكث سلمى في المحل إلا لحظات ،  رأتْ  فيها النساء و البنات ، وهنّ
يدفعن الدنانير بالعشرات ، وبين خـُذ و هات ، سـرَحَتْ في تفكير عميق ، 
ذهبَت  فيه بدربٍ و عادت من طريق ، وهي تـُـتمْـتِم قائلة : أحملُ السِلال ،
وأ ُطيل التجوال ، من أجل القليل من المال ، والنساء هنا تدفع عشرات
الدنانير بدون أدنى  تفكير....!

تنزلُ امرأة ٌ الآن من سيارة بيك آب ، عمرها فوق الستـّين مُقَـلـّدة ً مشية
الصبايا ، و( اللـهُ أعلم بالخَفـايا) ، عِطرُها يملأ المكان ،  فتشتري نصف
بضاعة الدكان !    تساءلت سلمى : بماذا تتميز عني تلك المرأة ،  و هل
المال يعطيها الجُرأة ؟

نظرتْ سلمى إلى امرأةٍ أخرى عند الباب مازالت في شرخ الشباب ، ترفعُ
يدها مشيرة الى الملابس ، وفي أصابعها تزدحم الخواتم والمحابس ، وفي
معصمها ترنّ أساور الذهب ، التي كانت لكثرتها تثير العجب . شدّتْ سلمى
كـُمّ قميصها لتغطي أساورَها ، و كادت الحسرة أن تحاورَها :  هل يزيد
الذهبُ النساءَ جمالا ً ؟

كانت النساء تتدافع عند الباب ، واحدة ٌ تسأل و أخرى ترد الجواب :
-  البضاعة كلها قديمة ! مافي موديلات !
-  صحيح  ! ما عدا المناديل و الشالات.
-  والله  الخزاين عندي امساوْيـة سحْـجـِة ، بس الجديد يَخْـتي  إلـُه بهـجة !
-  أني مثلِكْ يَخْـتيْ ، الشهر الماضي جـِبـِتْ لـَـوْلادي وِعْـيِه بـ 300دينار                                                            روحي شوفيهن  ..... امْرَمَّيـات بقاعة الدار ،  وِنْ حكيتْ بصيرفـُرجـِة !
-  خلـّيني أرُوح أشوف كنادر لَهـَلـْبناتْ ، واشتري للزلمة دزينة  قمصان 
    شبّاحات.

وفي هذه الأثناء تدخل ثلاث فتيات بالمكياج الثقيل ،  يرتدين الـ تي شيرتات 
وضّيق البناطيل... ! (لا... حـرام ) !  كان على رؤوسهن مناديل !!
الأولى : عمو فيه عندك بناطيل ليجرا ؟
الثانية :  فرجيني كـُووولّ البَـلا يـِزْ اللي عندَك !
الثالثة :  أني فرجيني البـَديـَّات لو سمحْتْ !
قالت سلمى في نفسها : هل التسوّ ق هنا  للحاجة فعلا ً ،أم للتباهـي أصلا ً !؟

مشَتْ سلمى نحو أطراف المدينة ، فرأت القصور و الفيلات ، تتوقف أمامـها السيارات ،  من غواصات و هـمَـرات ، ولاحظَتْ كيف كان الأطفال يلعبون
في مداخلـها حفاة ً  و شبه عُـراة - بقمصان ٍ فقط - وقد ترك أحدهـم دراجته
ليلحق بأحد أقرانه وهـو يشتمه بكلمات نابية.  قالت سلمى بصوت حزين :
أ هؤلاء هـم الحفاة العراة الذين يتـطـاولـ....... . ؟

 كانت سلمى تعيش مع زوجها قانعة ً راضية ، و بخدمة عائلتها ماضية ،
حتى رأتْ حياة المدينة ، فكادت أن تصبح لها رهينة ،  وسرَحـَتْ بأطراف
خيالها ، متأكدة ً من عناصر جمالها ....تصورتْ نفسها تركبُ سيارة الـ 
بيك آب النيسان ، كغيرها من النسوان ، وتلبس بنطلون الليجرا وقميص الـ تي شيرت ، مع القليل من المكياج  ، وعندما  تصل الكراج ، تقفز من البيك آب 
و تَـتجـهُ نحو الباب ،  منادية زوجها :
 يا أبـّاري  ! (و بالهمزة بدل القاف) ، و شعرها يتطاير على الأكتاف ، 
فيخرج أبو عمر من باب الفيلا ّ في الحـال ،  وفي   يده الجوّال ، مرتديا 
روب الحرير و تكاد هـي من الفرحة تطيـر ، قائلا ً: إتأخّرتي كـْـتـِيرْ 
دارْ لِنغْ.....!

   ابتسمتْ  سلمى بعد أن صحَـتْ من  حلمها ثم انتبهـتْ إلى حركةٍ أمام
الخربوش ،  وإذا بابنها عمر الصغير يدخلُ و قد لبس الدراعة المطرزة
والحذاء و الطربوش ،  وفي جيبه ترنّ بعضُ القروش ،  استعدادا للعيـد...
بينما وقف أبو عمر غير بعيد ،  بقميصه النظيف و سرواله الأبيض الجديد .
تقدّم عمر نحو أمه باحترام ، ثم تناول يدها و قبّـلها  وبدأ الكـلام:  كل عام
وأنت بخير يا أحلى ماما !
نظرت سلمى إلى نفسها في المرآة مرة ً أخرى ثمّ ابتسمت في سرور و قالت :
على رأي ( عمرو بن معد  يكرب ) ،

ليس الجَمالُ بمـئزر ٍ    فاعلمْ و إن رُدّيتَ بـُردا
إنّ الجَـمـالَ معـادن ٌ     و مناقبٌ أورثـْنَ مَـجـْدا