الزهرة
الغريـبـة – مَـقـامة
د.
فـايز أبو الـكا س
الأجواء من حولنا يكتنفها التخبـّط ،و تسودها
الفوضى و ضبابية المشهد ، والتصريحات في كل المجالات متضاربة و الأقوال تغاير
الأفعال ..
الجفاف
يسود الرأي و الرأي المضاد.. حربٌ فعلية تسود الوطن باتساعه
و حربٌ
كلامية تصدر من هنا و هناك . ادّعاءٌ بنبذ التعصب و النفوس
غارقة فيه
.. كذب و نفاق و سياسة ذات أهداف ظاهرها
فيه الرحمة
و باطنها
فيه النقمـة .
لا مكان في
مثل هذه الأجواء للمحبة و التحليق في الخيال و لا مجال
للحديث عن
الشعر و الموسيقى و الجمــال . سيكون الحديث في غير
الحرب و
الدم و انتقاد الساسة و الحكومات و مؤازرة
فلان أو مهاجمته
في
الإنتخابات ،حديثا غريبا كعنوان هذه المقامة .. ولكنني لا أزال أعتقد
أن هناك مَن
لا يهتمـّون كثيرا بهذا الجوّ الزائف و الإدّعاءات المعروفة
بكذبها ، فهم
بحاجة إلى قطرات ٍ من المطر لتلطيف أجوائهم و إليهم
أنقل حديث
أبي ياسمينـة .
حدّثنـا (
أبو ياسمينـة) قائلا :
في رحلة ٍعلى
الأقدام ، بين الجبال و الآكام ، وبين أغاني
النواطير
و نايات رُعا
ة الأغنـام ، وقعَتْ عيني ، و ياليتها لم تقع ، على زهرة
غريبة بين الزهور
، بتـُربة الغاب مغروسة ، و بعالياتِ الصخور
محروسة ..
زهرة بيضاء البتـَلات ، تقف كملكـة جمال ٍ في حفل ٍ
للجميلات ..
أخذتْ لونـَها من لون قمم الجبال التي لم ترَ
أرضُها
السماءَ
منذ عُـقود .. فقد كان الثلجُ يتلوه ثلج ٌ
، و البرْد يتخلله برقٌ
و رُعود .
إلا أنها صمدَتْ للريح ، دون أن تئنّ َ أو تصيح ..فقلت
في نفسي :
هذه الزهرة ضَـالـَّتي و أنا عاشق ٌ للزهـور،أبحث عن
الغريب منها
، و كلّ ِ غريب ٍ من الفراشات ِ و النباتات ِو الطـيور !
تأمـَّلتـُها
.. كانت غاية في الجمال ! شمَـمـتُ عطرَها .. لقد فاق
عطرُهاالخيـال
! فقلت هامسـًا : لا أبرحُ المكـان إلا و هذه الزهرة
بيدي ، إنها أمسي و يومي و غـدي !
أحضرتُ من
الشلال بعض المـاء و جعلتـُه لجذرهـا رُ واء .. ثم
اغترفتـُهـا
من الجذور ، و قـُلت : بسم اللـه الحفيظ الشَـَـكـُور !
و حينما
وصلتُ الدار ، أحضرتُ لها أجمل أصيص ٍ من الفخـّار ،
و غرستـُها
متوكلا على اللـه النافع ِ و الضـارّ .
سقيتـُها ماءً قليـلا ،
و وفـَّرتُ
لها ظـِلا ظليلا .. غازلتـُها .. ابتسمتُ لها ..مالتْ من
الحيـاء قليلا
ً ، فأسنـَدتـُها ، وقلتُ : سأتركـُك ِ هنا حتى المسَــاء !
زرتـُها
قـُبيل الغروب ، و قلبي في الدعاء لها يذوب .. نظرتُ إليها
من وراء
الستار ، و أنا واجفٌ .. خائفٌ ..خـَوَّار
. رأيتها شامخة ً
في الأصيص
، فرفعتـُها و أنا على قامتـها حريص ، ثم
وضعتـُها
في المكان
الملائم ، و لم أكن ساعتها أبدًا
بالمتشـائم !
و مرَّت
الأيام .. و أزهـرَت الأحلام ، و أصبح
للزهرة ِ فروع ٌ
جديدة ، و
الزهرة ُ الواحدة ُ في الفرع ِ صارتْ زهورًا عديـدة !
الفراش
الملوّنُ حولها يحوم ، والناظرإليها
يحسبها مجموعة نجوم ،
فسبحانه الخالق البارىء المصـوّ ِرُ و الحيُّ القيـّـُوم
!
كانت زهرتي
قويّة ، فهي من تربة الأرض العليـَّة !
تـأقلمَتْ
سريعا مع
المكان ، الذي يعـُمـّـُهُ العطفُ والأمان
ولا يعرف معنى
القلق أو
الأحزان .
ثم كان يومـًا صيفيـا حزينـا ، لم نبلـُغْ فيه بعـدُ أمانينا ، مررتُ
بالزهرة فرأيتـُها كئيبة ! صرختُ : ما بالك يازهرتي
الحبيبـة !
الجو هاهنا
جميل ، و التربة حولك رطيبـة ! و في يومها
التالي
اصفرّت
زهرتي ، فزادت كـُربتي .. مسحتُ على ساقها .. خفـَّفتُ
من أوراقها
..ولكنها أبـَتْ إلا الجفـاف ، مع أنها لم تـُعان ِ المرض
و لا العطشَ
ولا عيشَ الكـَفاف !
و ماتـت الزهرة ُ اليانعـة ، التي لم تكن يوما إلا راضية
ً قانعـة ..
و تركـَتْ
روحي لكلّ مباهج الحياة و الرغبة في عيشها مانعـة !
فتـَّشـتُ
في التراب .. بحثتُ في الأسباب .. فلم أجد سببـًا واحدًا
يُخبرني بالجواب
.. حتى جلسْتُ في ليلة ٍ كئيبة ، و أعواد ُ زهرتي
مني قريبة
، ناجيتُ تلك الأعواد.. و طاف خيالي في البلاد ، حتى
وصلتُ
لليقين ، بأنّ زهرتي ماتت من الحزن والحنين . حنـَّتْ
لتربتها القديمة
، وهي في إحساسها عليمة ، بأن تـُربتها ستبللها
الدماء ، و
ستحدُثُ فوقـها حربٌ شعواء ، بين الإخوة و الأصدقاء !!
دفنتُ
عيدان زهرتي ، ولا أستطيع وصْفَ بَـلـْوتي ، ثم كتبتُ على
أصيص
الفخـّار بيتـًا من الأشعار، و هو لابن زيدون ، و كلّ
مصيبة ٍ
بعد موتِ زهرتي تهـُون . قرّرتُ ألا ّ أجلـِبَ
لحديقتي
بعد زهرتي
زُهورا ، ولن أزرع بعدها وردًا ولا منثورا
. .
قلنا له
: أتحِفنا ببيت الشعر على عجَل ، فقد
أصابنا من قصتك الوجَل!
قال : هو ذا بيتُ الشّـِعـر ،
و لوْ صَبـَا نـَحـْـوَنا من عـُلـُوّ ِ مَطـْـلـَعـِه ِ
بدرُ الدّ ُجى ، لم يكنْ - حاشاك ِ -يُصْبـيـنا
ثم غادرَ
و عيونـُنـا دامعـة ، و
راحاتـُنـا لدموعنـا جامعـة !
===========