السبت، 24 أغسطس 2013

الزهرة الغريـبـة – مَـقـامة



















الزهرة الغريـبـة – مَـقـامة

 د. فـايز أبو الـكا س

 الأجواء من حولنا يكتنفها التخبـّط ،و تسودها الفوضى و ضبابية المشهد ، والتصريحات في كل المجالات متضاربة و الأقوال تغاير الأفعال ..
الجفاف يسود الرأي و الرأي المضاد.. حربٌ فعلية تسود الوطن باتساعه
و حربٌ كلامية تصدر من هنا و هناك . ادّعاءٌ بنبذ التعصب و النفوس
غارقة فيه .. كذب و نفاق و سياسة ذات أهداف  ظاهرها فيه الرحمة
و باطنها فيه النقمـة .
لا مكان في مثل هذه الأجواء للمحبة و التحليق في الخيال و لا مجال
للحديث عن الشعر و الموسيقى و الجمــال . سيكون الحديث في غير
الحرب و الدم  و انتقاد الساسة و الحكومات و مؤازرة فلان  أو مهاجمته
في الإنتخابات ،حديثا غريبا كعنوان هذه المقامة .. ولكنني لا أزال أعتقد
أن هناك مَن لا يهتمـّون كثيرا بهذا الجوّ الزائف و الإدّعاءات المعروفة 
بكذبها ، فهم بحاجة إلى قطرات ٍ من المطر لتلطيف أجوائهم و إليهم
أنقل حديث أبي ياسمينـة  .

حدّثنـا ( أبو ياسمينـة)  قائلا :
في رحلة ٍعلى الأقدام ،  بين الجبال و الآكام ، وبين أغاني النواطير
و نايات رُعا ة الأغنـام ، وقعَتْ عيني ، و ياليتها لم تقع ، على زهرة
غريبة بين الزهور ، بتـُربة الغاب مغروسة ، و بعالياتِ  الصخور
محروسة .. زهرة بيضاء البتـَلات ، تقف كملكـة جمال ٍ في حفل ٍ
للجميلات .. أخذتْ لونـَها من لون قمم الجبال التي لم ترَ  أرضُها
السماءَ منذ عُـقود .. فقد كان الثلجُ  يتلوه ثلج ٌ ، و البرْد يتخلله برقٌ
و رُعود . إلا أنها صمدَتْ للريح ، دون أن تئنّ َ أو  تصيح ..فقلت
في نفسي : هذه الزهرة ضَـالـَّتي و أنا عاشق ٌ للزهـور،أبحث عن
الغريب منها ، و كلّ ِ غريب ٍ من الفراشات ِ و النباتات ِو الطـيور !

تأمـَّلتـُها .. كانت  غاية في الجمال !  شمَـمـتُ عطرَها .. لقد فاق
عطرُهاالخيـال ! فقلت هامسـًا : لا أبرحُ المكـان إلا و هذه الزهرة
 بيدي ، إنها أمسي و يومي و غـدي !  
أحضرتُ من الشلال بعض المـاء و جعلتـُه لجذرهـا رُ واء .. ثم
اغترفتـُهـا من الجذور ، و قـُلت : بسم اللـه الحفيظ الشَـَـكـُور !

و حينما وصلتُ الدار ، أحضرتُ لها أجمل أصيص ٍ من الفخـّار ،
و غرستـُها متوكلا على اللـه  النافع ِ و الضـارّ . سقيتـُها  ماءً قليـلا ،
و وفـَّرتُ لها ظـِلا ظليلا .. غازلتـُها .. ابتسمتُ لها ..مالتْ من
الحيـاء قليلا ً ، فأسنـَدتـُها ، وقلتُ : سأتركـُك ِ هنا حتى المسَــاء !

زرتـُها قـُبيل الغروب ، و قلبي في الدعاء لها يذوب .. نظرتُ إليها
من وراء الستار ، و أنا واجفٌ  .. خائفٌ ..خـَوَّار . رأيتها شامخة ً
في الأصيص ، فرفعتـُها و أنا على قامتـها  حريص ، ثم وضعتـُها
في المكان الملائم  ، و لم أكن ساعتها  أبدًا  بالمتشـائم !

و مرَّت الأيام ..  و أزهـرَت الأحلام ، و أصبح للزهرة ِ فروع ٌ
جديدة ، و الزهرة ُ الواحدة ُ في الفرع ِ صارتْ زهورًا عديـدة  !
الفراش الملوّنُ حولها يحوم ،  والناظرإليها يحسبها مجموعة نجوم ،
 فسبحانه الخالق البارىء المصـوّ ِرُ و الحيُّ القيـّـُوم !
كانت زهرتي قويّة ، فهي من تربة  الأرض العليـَّة ! تـأقلمَتْ
سريعا مع المكان ، الذي يعـُمـّـُهُ  العطفُ والأمان ولا يعرف معنى
القلق أو الأحزان  .

ثم  كان يومـًا صيفيـا حزينـا ، لم نبلـُغْ  فيه بعـدُ أمانينا ، مررتُ
بالزهرة  فرأيتـُها كئيبة ! صرختُ : ما بالك يازهرتي الحبيبـة !
الجو هاهنا جميل ، و التربة  حولك رطيبـة ! و في يومها التالي
اصفرّت زهرتي ، فزادت كـُربتي .. مسحتُ على ساقها .. خفـَّفتُ
من أوراقها ..ولكنها أبـَتْ إلا الجفـاف ، مع أنها لم تـُعان ِ المرض
و لا العطشَ ولا  عيشَ الكـَفاف !
و ماتـت  الزهرة ُ اليانعـة ، التي لم تكن يوما إلا راضية ً قانعـة ..
و تركـَتْ روحي لكلّ مباهج الحياة  و الرغبة في عيشها  مانعـة !

فتـَّشـتُ في التراب .. بحثتُ في الأسباب .. فلم أجد سببـًا واحدًا
يُخبرني بالجواب .. حتى جلسْتُ في ليلة ٍ كئيبة ، و أعواد ُ زهرتي
مني قريبة ، ناجيتُ تلك الأعواد..  و طاف خيالي  في البلاد ، حتى
وصلتُ لليقين ، بأنّ زهرتي ماتت من الحزن والحنين  . حنـَّتْ
لتربتها القديمة ،  وهي في إحساسها عليمة ، بأن تـُربتها ستبللها
الدماء ، و ستحدُثُ فوقـها حربٌ شعواء ، بين الإخوة و الأصدقاء !!
دفنتُ عيدان زهرتي ، ولا أستطيع وصْفَ بَـلـْوتي ، ثم كتبتُ على
أصيص الفخـّار  بيتـًا  من الأشعار، و هو لابن زيدون ، و كلّ
مصيبة ٍ بعد موتِ زهرتي تهـُون .  قرّرتُ ألا ّ أجلـِبَ  لحديقتي
بعد زهرتي زُهورا ، ولن أزرع بعدها  وردًا ولا منثورا . .
قلنا له :  أتحِفنا ببيت الشعر على عجَل ، فقد أصابنا من قصتك الوجَل!
قال : هو ذا بيتُ الشّـِعـر ،
و لوْ  صَبـَا  نـَحـْـوَنا  من عـُلـُوّ ِ مَطـْـلـَعـِه ِ
بدرُ الدّ ُجى ، لم يكنْ - حاشاك ِ  -يُصْبـيـنا
ثم غادرَ  و عيونـُنـا  دامعـة ، و راحاتـُنـا  لدموعنـا جامعـة !
 
                         ===========