السبت، 30 نوفمبر 2013

قصتان







1 . حـُكم قراقـوش

   ( من قصص الشـتاء القديمة )


كان قراقوش واليًا و قاضيًا في مصر أيام حكم صلاح الدين و قد ألصقت به الكثير من الحكايات التي نـُسـبت أشباهـها  إلى جحـا و قيل إنه كان رجلا عادلا وما هذه القصص إلا تلفيقا من أعدائه . ذهب قراقوش و لكن القصص بقيت ماثلة للتندر و التسلية !



يحكى أن رجلا فـقيرَ الحـال كان يسكن مع عائلته في حجرتين من الطين عندما رجع أخوه من السفر جـالبـًا معه مبلغـًا كبيرا من المال و الهدايا . كان الأخ يسكن في بيت جميل مجاور لبيت أخيه الفقير الذي كان يُدعى مسعود . لم يكن اسم مسعود ينطبق على صاحبه فقد كانت الهموم و المآسي و الفقر وسوء الحظ  تلازمه حيثما حل و ارتحل .

عندما علم مسعود بحضور أخيه من السفر ، استدان من القصّاب نصف رطل من اللحم  و عمل لأخيه وليمة ً لعل أخاه الغني يغدق عليه بعد الوليمة بعض المال و الهدايا فينفقها على عياله ! تناول أخوه اللحم  وغادر بيت مسعود شاكرا . عندما علمت زوجة الغني بالوليمة ثارت و غضبت لأنّ مسعود لم يقـُم بدعوتها  و بدأت توغـِرُ صدر زوجها على أخيه الفقير بمطالبته بنصف مساحة بيته الذي أورثه لهما و الدهما .

و ما كان من الأخ الغني إلا أن استجاب لأمر زوجته فحزن مسعود  كثيرا و قال لأخيه : يا أخي ، أنا رجل فقير لا أستطيع أن أعطيك نصف هذا البيت القديم الذي يستر زوجتي و أولادي  و ليس لدي النقود لأعطيك ثمن حصتـك .فأصرّ الأخ الغني على طلبه إرضاءً لزوجته . قال مسعود : إذن ليس لنا يا أخي إلا قاضي المدينة . واتفق الإثنان على السفر إلى المدينة بحيث يذهب مسعود قبل يومين ماشيـًا ، ثم يلحق به أخوه بعدها على فرسـه .

سار مسعود بطريقه نحو المدينة و كانت المسافة ستأخذ منه أربعة أيام . وفي طريقه مرّ بخيمة ٍ لجماعة من البدو . و لما لم يجد بها أحدا ، دخل ليستريح قليلا لعل أهل الخيمة يزودونه ببعض اللبن يسد بها رمقه . جلس مسعود على الفراش  و لشدة تعبه أغمض عينيه  فنام ! أفاق مسعود بعد فترة قصيرة على صياح صاحبة الخيمة وهي تبكي طفلها الرضيع الذي وجدته مخنوقـًا بعد أن جلس مسعود فوق فراشه دون أن يشعر بوجوده .

هرع إلى المكان صاحب الخيمة و هو يصيح مهددا ، فقال مسعود : يا أخي ،أنا ذاهب في قضية إلى قاضي المدينة ، و سوف أجعلهما قضيتين يحكم بهما القاضي  !! و أثناء سير الرجلين رأى مسعود مزارعا يحاول انتشال حماره من الطين بعد أن غرزت أقدامه و لم يستطع الخروج فقال لرفيقه : امهلني قليلا كي أساعد صاحب هذا الحمار .
حاول مسـعود شدّ ذنب الحمار كي يخرجه من الطين فانقطع الذنب بيده . غضب صاحب الحمار و صاح بمسعود : ستدفع لي ثمن الحمار أو أقتلك ! قال له مسعود : يا أخي أنا ذاهب إلى قاضي المدينة في قضيتين ، فاذهب معي لنجعلهما ثلاثة .

سار مسعود مع صاحب الخيمة و صاحب الحمارباتجاه المدينة ، و لما وصل الثلاثة إلى حافة ٍ صخرية عالية على نهر النيل ، قرر مسعود الإنتحار كي يتخلص من حياته التي امتلأت بالفقر و الهموم ، فقز من الحافة الصخرية نحو الوادي  فسقط فوق بطن راع ٍ للأغنام كان يتفيـّأ بظل شجيرة فقتلـه و بقي مسعود سالمـًا . هجم الرعاة على مسعود فقال لهم : انتظروا ،  أنا ذاهب إلى قاضي المدينة في ثلاث قضايا فلتكن قضية اخيكم الراعي هي الرابعة !!

وصل الجميع إلى المدينة فوجد مسعود أخاه الغني قد سبقه بالوصول إلى السوق .
 و في الصباح اتجـه الرجال  نحو المحكمة  و كان القاضي قراقوش جالسا على كرسيه فأبلغ مسعود الحاجب بقضاياه  كلها شارحا له حظه التعيس و فقره ! حزن الحاجب على مسعود و قرر مساعدته  . دخل الحاجب على القاضي و تكلم معه على انفراد وبعد قليل  نادى الحاجب على المتهم  و خصومه .

دخل الرجال الخمسة على القاضي فبدأ مسعود بالكلام ثم تلاه خصومه كلّ ٌ في دعواه ! سكت القاضي قراقوش قليلا و بعدها نطق بالحكم ليرى ردة الفعل عند الخصوم .
قال القاضي : حكمتُ على مسعود أن يقسم بيته بينه و بين أخيه  و هذا حق طبعا ، على أن أقطع من فخذ أخيه نصف رطل من اللحم يسترجعها مسعود بدل لحم  وليمته  ! فصاح الرجل : لا يا سيدي ، أنا لا أريد البيت أبدا و إنني أسامح أخي بالإرث ! قال القاضي : حسنا . إذهب  للحاجب و اسقط القضية و ادفع عشرين دينارا للحاجب .

تقدم بعد ذلك والد الطفل الذي توفي في الخيمة فقال القاضي : و أنت حكمتُ عليك بتطليق زوجتك على أ ن يتزوجها مسعود و تنجب له طفلا يدفعه لك بدل طفلك .فصاح الرجل :لا يا سيدي سوف أسامحه بدية ابني !! قال القاضي : حسنا ، اذهب إلى الحاجب واسقط قضيتك وادفع له أتعاب المحكمة عشرين دينارًا !

و جاء دور صاحب الحمار . قال القاضي : حكمتْ المحكمة على مسعود أن يستعمل الحمار لمصالحه الشخصية حتى ينبت له ذيل  بنفس طول ذيله الأول ثم يرده بعد ذلك لصاحبه !
قال صاحب الحمار : يا سيدي ، إنه حماري الذي لا أستطيع العمل بدونه . هل تقبلون أن أسامح مسعود بالذيل بكل رضى ؟ قال القاضي : نعم ، و لكن بشرط أن تدفع للحاجب عشرة دنانير من أجل أتعاب المحكمة و تتعهد ألا تطالب بذيل حمارك مرة أخرى!  ثم قال القاضي : تقدم أيها الراعي ! حكمتُ عليك أن ينام مسعود في ظل الشجيرة التي نام أخوك تحتها ، ثم  تقفز أنت من حافة الياقوصة  على بطن مسعود  لتقتله كما قتل
أخاك !! فاستنجد الراعي بمسعود و قال له : عفوتُ عنك ! عفوتُ عنك ! فقال القاضي : حسنا ! عشرون دينارا تدفعها للحاجب مع اعترافك بإسقاط القضية ! خرج الجميع و بقي مسعود مع القاضي . فقال له القاضي :
يا مسعود ، هذه خمس وثلاثون  دينارا لك  و للمحكمة مثــلها . إذهب واشتـر ِ لعيالك ما يلـزمهم  !!!


2. شوال القمـح

 ( قصة واقعيـّة )


توفـّي رجل ٌ عجـوزٌ في إحدى القـرى . و في أثناء عملية الدّفـن تقدم من النعش رجل غريب و راح يبكي على الميت بكـاءً مـُـرّا . عجب أهل الميت من بكاء الرجل حيث لم يبكِ أحدٌ منهم عليه فقد كان رجلا كبير السن مريضا و كان موتـُه راحة ً له .

و بعد أن غادر الجميع المقبرة بقي أحد أبناء المتوفى عند قبر أبيه و بجانبه الرجل الغريب الباكي . سأل ابنُ المتوفى عن سبب بكاء الرجل على أبيه إذ لم يكن من أقاربه ولا معارفه . فأجاب الرجل : اسمع يا بنيّ ! في ليلة صيف ٍ قبل عشرين عام أو أكثر ، خرجتُ من بيتي بأطراف القـرية  حزينا لا أعرف ماذا أفعل بأولادي و زوجتي الذين لم يكن عندهم طعام عشاء تلك الليلة .
اسودّت الدنيا بعينيّ  و أنا  غريبٌ و فقير الحال  أسكن أطراف القرية و ليس لي مَـن يقرضني مالا ً،  و لم تكن تطاوعني نفسي بأن أسأل أحدًا عن طعام لعائلتي .

ركبتُ حماري و كان الناس نيام على بيادرهم  و طفتُ حول البيادر حتى رأيتُ رجلا قد غط ّ في النوم فوق بيدره و حوله أكياس مليئة بالقمـح جاهزة لنقلها في الصباح إلى بيتـه . حدّثتني نفسي الأمـّارة بالسوء بأن أسرق شوالا من القمح أثناء نوم الرجل . فاقتربتُ من البيدر و حاولتُ حمل الشوال ثم وضعه على ظهر الحمار ولكن دون جدوى ، فقد كان الحمار في كل مرة  يتحرك و الشوال ثقيل جدا فلم أستطع تحميل الشوال . و بعد أن تعبتُ نهض الرجل النائم - و لا أظنّ ُ أنه كان نائما فعلا ً - و قال : يا رجل ! لماذا لم تيقظني لأساعدك في التحميل ؟ ثم نهض و ساعدني على تحميل الشوال و قال بعد أن شرحتُ له قصتي : باللـه عليك أن ترجع و تأخذ شوالا آخر . و بعد أن أوصلتُ الشوال إلى البيت ، رجعتُ و أعطـاني شوالا  ثانيا  ! و منذ ذلك الصيف و أنا أخجل من ذلك  الرجل . كنتُ عندما يصادفني في الطريق أحيدُ عن طريقه لفظاعة ما اقترفـَتـْـهُ  يـداي ثم  حياءً من جوده و كرمه و محاولته  ستره على جريمتي .. لقد كان ذلك الرجل الشهم هو أباك المُـتوفـّى !! رحمه اللـه و أسكنه فسيح جنــّاته .