1 . حـُكم قراقـوش
(
من قصص الشـتاء القديمة )
كان قراقوش
واليًا و قاضيًا في مصر أيام حكم صلاح الدين و قد ألصقت به الكثير من الحكايات
التي نـُسـبت أشباهـها إلى جحـا و قيل إنه
كان رجلا عادلا وما هذه القصص إلا تلفيقا من أعدائه . ذهب قراقوش و لكن القصص بقيت
ماثلة للتندر و التسلية !
يحكى أن رجلا فـقيرَ الحـال كان يسكن مع عائلته في حجرتين من الطين
عندما رجع أخوه من السفر جـالبـًا معه مبلغـًا كبيرا من المال و الهدايا . كان الأخ
يسكن في بيت جميل مجاور لبيت أخيه الفقير الذي كان يُدعى مسعود . لم يكن اسم مسعود
ينطبق على صاحبه فقد كانت الهموم و المآسي و الفقر وسوء الحظ تلازمه حيثما حل و ارتحل .
عندما علم مسعود بحضور أخيه من السفر ، استدان من القصّاب نصف رطل
من اللحم و عمل لأخيه وليمة ً لعل أخاه الغني يغدق عليه بعد الوليمة بعض المال و
الهدايا فينفقها على عياله ! تناول أخوه اللحم وغادر بيت
مسعود شاكرا . عندما علمت زوجة الغني بالوليمة ثارت و غضبت لأنّ مسعود لم يقـُم
بدعوتها و بدأت توغـِرُ صدر زوجها على
أخيه الفقير بمطالبته بنصف مساحة بيته الذي أورثه لهما و الدهما .
و ما كان من الأخ الغني إلا أن استجاب لأمر زوجته فحزن مسعود كثيرا و قال لأخيه : يا أخي ، أنا رجل فقير لا أستطيع أن أعطيك نصف هذا البيت القديم
الذي يستر زوجتي و أولادي و ليس لدي النقود
لأعطيك ثمن حصتـك .فأصرّ الأخ الغني على طلبه إرضاءً لزوجته . قال مسعود : إذن ليس لنا يا أخي إلا قاضي المدينة . واتفق الإثنان على السفر إلى
المدينة بحيث يذهب مسعود قبل يومين ماشيـًا ، ثم يلحق به أخوه بعدها على فرسـه .
سار مسعود بطريقه نحو المدينة و كانت المسافة ستأخذ منه أربعة أيام
. وفي طريقه مرّ بخيمة ٍ لجماعة من البدو . و لما لم يجد بها أحدا ، دخل ليستريح
قليلا لعل أهل الخيمة يزودونه ببعض اللبن يسد بها رمقه . جلس مسعود على الفراش و لشدة تعبه أغمض عينيه فنام ! أفاق مسعود بعد فترة قصيرة على صياح صاحبة الخيمة وهي تبكي طفلها
الرضيع الذي وجدته مخنوقـًا بعد أن جلس مسعود فوق فراشه دون أن يشعر بوجوده .
هرع إلى المكان صاحب الخيمة و هو يصيح مهددا ، فقال مسعود : يا أخي
،أنا ذاهب في قضية إلى قاضي المدينة ، و سوف أجعلهما قضيتين يحكم بهما القاضي !! و أثناء سير الرجلين رأى مسعود مزارعا يحاول انتشال حماره من الطين
بعد أن غرزت أقدامه و لم يستطع الخروج فقال لرفيقه : امهلني قليلا كي أساعد صاحب
هذا الحمار .
حاول مسـعود شدّ ذنب الحمار كي يخرجه من الطين فانقطع الذنب بيده .
غضب صاحب الحمار و صاح بمسعود : ستدفع لي ثمن الحمار أو أقتلك ! قال له مسعود
: يا أخي أنا ذاهب إلى قاضي المدينة في قضيتين ، فاذهب معي لنجعلهما ثلاثة .
سار مسعود مع صاحب الخيمة و صاحب الحمارباتجاه المدينة ، و لما وصل
الثلاثة إلى حافة ٍ صخرية عالية على نهر النيل ، قرر مسعود الإنتحار كي يتخلص من
حياته التي امتلأت بالفقر و الهموم ، فقز من الحافة الصخرية نحو الوادي فسقط فوق بطن راع ٍ للأغنام كان يتفيـّأ بظل شجيرة فقتلـه و بقي مسعود سالمـًا . هجم
الرعاة على مسعود فقال لهم : انتظروا ، أنا ذاهب
إلى قاضي المدينة في ثلاث قضايا فلتكن قضية اخيكم الراعي هي الرابعة !!
وصل الجميع إلى المدينة فوجد مسعود أخاه الغني قد سبقه بالوصول إلى السوق
.
و في الصباح اتجـه الرجال نحو المحكمة
و كان القاضي قراقوش جالسا على كرسيه فأبلغ مسعود الحاجب بقضاياه كلها شارحا له حظه التعيس و فقره ! حزن الحاجب على مسعود و قرر مساعدته . دخل الحاجب على القاضي و تكلم معه على انفراد وبعد قليل نادى
الحاجب على المتهم و خصومه .
دخل الرجال الخمسة على القاضي فبدأ مسعود بالكلام ثم تلاه خصومه كلّ
ٌ في دعواه ! سكت القاضي قراقوش قليلا و بعدها نطق بالحكم ليرى ردة الفعل عند
الخصوم .
قال القاضي : حكمتُ على مسعود أن يقسم بيته بينه و بين أخيه و هذا حق طبعا ، على أن أقطع من فخذ أخيه نصف رطل من اللحم يسترجعها مسعود بدل لحم وليمته
! فصاح الرجل : لا يا سيدي ، أنا لا أريد البيت أبدا و إنني أسامح أخي
بالإرث ! قال القاضي : حسنا . إذهب
للحاجب و اسقط القضية و ادفع عشرين دينارا للحاجب .
تقدم بعد ذلك والد الطفل الذي توفي في الخيمة فقال القاضي : و أنت حكمتُ عليك بتطليق زوجتك على أ ن يتزوجها مسعود و تنجب له
طفلا يدفعه لك بدل طفلك .فصاح الرجل :لا يا سيدي سوف أسامحه بدية ابني !! قال
القاضي : حسنا ، اذهب إلى الحاجب واسقط قضيتك وادفع له أتعاب المحكمة عشرين
دينارًا !
و جاء دور صاحب الحمار . قال القاضي : حكمتْ المحكمة على مسعود أن يستعمل الحمار لمصالحه الشخصية حتى ينبت
له ذيل بنفس طول ذيله الأول ثم يرده بعد ذلك لصاحبه !
قال صاحب الحمار : يا سيدي ، إنه حماري الذي لا أستطيع العمل بدونه
. هل تقبلون أن أسامح مسعود بالذيل بكل رضى ؟ قال القاضي : نعم ، و لكن بشرط أن تدفع للحاجب عشرة دنانير من أجل أتعاب المحكمة
و تتعهد ألا تطالب بذيل حمارك مرة أخرى! ثم قال القاضي : تقدم أيها الراعي ! حكمتُ عليك أن ينام مسعود في ظل
الشجيرة التي نام أخوك تحتها ، ثم تقفز
أنت من حافة الياقوصة على بطن مسعود لتقتله كما قتل
أخاك !! فاستنجد الراعي بمسعود و قال له : عفوتُ عنك ! عفوتُ عنك ! فقال القاضي : حسنا ! عشرون دينارا تدفعها
للحاجب مع اعترافك بإسقاط القضية ! خرج الجميع و بقي مسعود مع القاضي . فقال له القاضي :
يا مسعود ، هذه خمس وثلاثون دينارا لك
و للمحكمة مثــلها . إذهب واشتـر ِ لعيالك ما يلـزمهم !!!
2. شوال القمـح
(
قصة واقعيـّة )
توفـّي رجل ٌ عجـوزٌ في إحدى القـرى . و في أثناء عملية الدّفـن تقدم
من النعش رجل غريب و راح يبكي على الميت بكـاءً مـُـرّا . عجب أهل الميت من بكاء الرجل
حيث لم يبكِ أحدٌ منهم عليه فقد كان رجلا كبير السن مريضا و كان موتـُه راحة ً له
.
و بعد أن غادر الجميع المقبرة بقي أحد أبناء المتوفى عند قبر أبيه و
بجانبه الرجل الغريب الباكي . سأل ابنُ المتوفى عن سبب بكاء الرجل على أبيه إذ لم يكن من
أقاربه ولا معارفه . فأجاب الرجل : اسمع يا بنيّ ! في ليلة صيف ٍ قبل عشرين عام أو أكثر ، خرجتُ من بيتي
بأطراف القـرية حزينا لا أعرف ماذا أفعل
بأولادي و زوجتي الذين لم يكن عندهم طعام عشاء تلك الليلة .
اسودّت الدنيا بعينيّ و
أنا غريبٌ و فقير الحال أسكن أطراف القرية و ليس لي مَـن يقرضني مالا ً، و لم تكن
تطاوعني نفسي بأن أسأل أحدًا عن طعام لعائلتي .
ركبتُ حماري و كان الناس نيام على بيادرهم و طفتُ حول البيادر حتى رأيتُ رجلا قد غط ّ في النوم فوق بيدره و حوله أكياس مليئة بالقمـح جاهزة لنقلها في
الصباح إلى بيتـه . حدّثتني نفسي الأمـّارة بالسوء بأن أسرق شوالا من القمح أثناء نوم الرجل .
فاقتربتُ من البيدر و حاولتُ حمل الشوال ثم وضعه على ظهر الحمار ولكن دون جدوى ،
فقد كان الحمار في كل مرة يتحرك و الشوال
ثقيل جدا فلم أستطع تحميل الشوال . و بعد أن تعبتُ نهض الرجل النائم - و لا أظنّ ُ أنه كان نائما فعلا ً - و قال : يا رجل ! لماذا لم تيقظني لأساعدك في التحميل ؟ ثم نهض و ساعدني على
تحميل الشوال و قال بعد أن شرحتُ له قصتي : باللـه عليك أن ترجع و تأخذ شوالا آخر .
و بعد أن أوصلتُ الشوال إلى البيت ، رجعتُ و أعطـاني شوالا ثانيا !
و منذ ذلك الصيف و أنا أخجل من ذلك الرجل
. كنتُ عندما يصادفني في الطريق أحيدُ عن طريقه لفظاعة ما اقترفـَتـْـهُ يـداي ثم
حياءً من جوده و كرمه و محاولته ستره
على جريمتي .. لقد كان ذلك الرجل الشهم هو أباك المُـتوفـّى !! رحمه اللـه و أسكنه فسيح جنــّاته .