بعد وصوله إلى بلدة ( الحَـارَّة ) ،
مرّ (سعــدٌ ) بكثيرٍ من الشوارع و
الأزقــّة ذات الأسمـاء التي تشُـدّ الإنتبـاه
قرأ منها : ( شارع العَطـاءات ) و( الزقاق البـَرّاني ) و ( حارة الهـدايا )
و ( دخْـلــَة فـُلفـُل الراشِـي ) و ( زاوية عـُلوة الحَـرامي ) و( ميدان هابش باشا) .
دخل سـعدٌ أحـَد الشوارع القديمة و منه أخذ طريقـًا فرعية ً كـُتب عند بدايتها بالخط ّ العريض ( زقاق الحصـائـد ) .
توقع سعدٌ أن يرى في ذلك الزقاق صفـوفـًا من الحوانيـت المليئة بالقمح و الزبيب
و البيـوت التي تملأها صفائح الزيت و العسـل ، ولكنه اكتشف أنّ جوانب
الزقاق كانت جُـد ُرًا خالية ً حتى من بيوت العنكبوت . يـَدِقّ ُ هذا السبيل ُ عند نهاية مرمى النظـر حتى يصبح كالشعرة و تبرز من جنبـاته بعض الحجـارة الحادة كـحـد ّ السـيف. قال سعد ٌ في نفسـه :
"إنّ الأسماء كثيرا ما تـُنافي مسمـّياتهـا. حبذا لو كان اسم الزقاق هذا (زقاق الضالــّين ) أمثالي " .
كان الزقاقُ طويلا و ملتـويـًا تصـوّر سعدٌ فيه نفـْسـه بطلا ً لواحدة ٍ من قصص العجـائز الشتائية التي يُسـافر فيها خيال الطفل المستلقي في فراشـه إلى البعيـد ، ليتابع قصص المغامرين ثم يتكوّر على نفسـه من الخوف تارة ً ، أو يخرُجَ عن طوره ليعرف نهـاية القصـة تارة ً أخرى ...الزقاق يطـُولُ و يزيد ضِيـقـُه كلما تقدّم سعدٌ إلى الأمام . و ما زاد الطينَ بـلـّة ً حلولُ الظلام الذي ألقى على الزقـاق رهبة ً و استحـالة ً في توقـّع القـادم . لم يلاحظ سعدٌ وجود نافـذة ٍ واحدة ٍ على طرفي الزقاق فزادتْ وحشـة ُ المكان و بدأ سعدٌ يحسبُ ألف حسـاب ٍ أنْ يصـادفـَه في إحدى الزوايـا كلبٌ ضـال أو حيوانٌ يخالفـُه الإتـجـاه فراح لسانـُه يتمتـم بكلـمـات ٍ لم
يقصـد قولـها !
و عندما كان يعود إلى سعدٍ رُشـدُه يتسـاءَل : " إلى أين أنت ذاهبٌ يا سعد ؟!
ماذا فعلتَ بنفسـك ؟ مِـمّ تهـرب و لمـاذا " ؟... و يزيد الزقاق ضِـيقـًا و ظلمـة ً
حتى أصبحَ سعدٌ يتحسّس طريقه بوضع كفـّيه على جانبي الزقاق . أحسّ سعد ٌ بالإختنـاق .. ضاق تنفـّسـُه ُ و زادت دقــّات قلبـه و لكنه تابع المسير إذ لا
يتمكـّن بعد قطع تلك المسـافة من الرجـوع ... ثم حلّ الظلام المُطبـِق ، فلا
بيتَ يؤنسـه ولا رجُلَ يلقاه ليسـأله عن الطريـق . غير أنه كان يسـمع في البـُعد صرخات ٍ لمجموعات ٍ من الناس لم يفقــَه ْ معنـاها . ثم ازداد الظلام و ضـاق
الزقاق حتى أحسّ سعد بأنه مدفونٌ في قبر ٍ أو أنه يسير في نفق ٍ أنبوبي ضيـّق
لا نهاية له .
أخذ سعدٌ يقدّم رجْلا ً و يؤخـّر أخرى خوفـًا من وجود حفرة ٍأو نهاية ٍ مفاجئة للزقاق
تـتركـُه جريحًا أو كسيرًا ... لم يعُد سعد يجـِدُ الهواء اللازم لتنفـسـه و بدأت حرارة جسمـه بالإرتفاع فأيقن بأنه هالكٌ لا محـالة بين جدارين لزقاق مظلم لا يكاد يتـّسـع لجسـده .
" كيف السبيل إلى الخروج من هذا الزقاق ؟ لقد ضللتُ طريقي ! أنا ضـال !
أشـُكّ ُ أنّ الطريق هذا سيـُـودي بي إلى أرض يسيطر عليها الجنّ أو تحكمهـا
المرَدة ...لا بـُدّ أنني في نفق ِخـُلـْد ٍ ضخم ٍأو وكر ِ ثعلب ؟ أريد أن أتنفـّس ! أنا لا أرى ! أنا لا أسمع و لا أحسّ ! ... أنا مـيّت " ! ثم صرخ مُطلـِقـًا صوته هذه
المرة ليدوّي في نهايات الزقاق : " ارفعوا عن جســدي الحجـارة و التراب" !
وبعدهـا قال هامسـًا :
" آه ! فـَهـِمْـتُ ... ربما أنا في زنزانة ٍ ضيقة ؟ هل أنا سجين ؟ أنا لم أقترف في حيـاتي إلا بعض الذنـوب ...و لقد كانوا هم السبـب في فعلي لـها ! كانوا هم السبب !
أنا أختنـق ! أنا أختنـق ! أنا أغـرقُ في الظـلام و الحرّ و الضيـق ِ و العطـش !
المكان يطبقُ على صدري ! عيـناي تخـرجان من وجـهي !
قلبي يتفـجّر ! أريـد الخـروج من الزقاق ، أريـد الخـُروج من نفـْسـي " !
حاول سعد أن يخلـْع قميصـه كي يستطيع التنفـّس ثم بدأ بتدليك صدره الذي ضاق على قلبـه الثائر ..رفع رأسـه إلى الأعلى فلم يرَ نجمـًا بسمـاء ولا نافذة ببنـاء .. ثم ارتمى على الأرض و أخذ يزحف متقدمـًا على بطنـه كالأفعى ... أدمى الحصى كفـّيه و ركبتيـه و مقدمة صدره العاري .
" ربـّاه ! لا بدّ أنني في الجحيم إذن ! سيشتعلُ الزقاق عليّ بعد قليل ٍ نارًا !
سـوف تتخطـّـفـُني كلاليب جهنم لا محـالة ! أنا في ضِـيق ٍ شـديد ! أنا محتـاج لمن يمـدّ لي يد المسـاعدة " !
و تقـدّم في الظلام قليلا ً و لسـوء حظـه علـِـقَ طرَف ُسروالـه بحجارة الجدارفأيقنَ عندها أنّ جهنم فِعلا ً قد ألـْقـَتْ عليـه بكلاليبهـا فانتفض واقفـًا ليضربَ رأسـَه بحجر ٍ بارز ٍ في الجدار أسقــَطـَه أرضـًا . و عندما ارتطم جسـده في أرض الزقاق ، سمع باب غرفتـه يُـقـرع لتدخُل زوجتـُه قائلـة ً :
" إنهض يا سـعد ! طعـام ُ السـُحــور جـاهزٌ و الأولاد بانتظـارك ! سيـُؤَذ َّن لوقت الإمسـاك بعد قليل ! ها هـُو الأوّل من رمضـان و الحمـدُ اللـه .
نهض سـعد من سريره ليجـد أن غطـاء السرير قد التفّ حول رقبتـه و كاد يخنقـه !
آه .... ! الحمـد للـه أنـه كان كابوســًا ! لقـد كان طعـام الجمـاعـة ثقيلا ً في عشـاء أمس .
ـــــــــــــــــــــــــــــ