كـيـس و ليـلـَـة
د. فـايـز ا بـو الـكا س
ذكرَ تاريخُ الأدب العربيّ قصصًا في
الحب العذري كقصة قيس وليلى ،
و عنتر و عبلـة ، و قيس و لبنى ،
و كثير وعزة ، و بـِشـْر و هنـد ،
و جميل و بثينـة وغيرها من
روائع قصص الحب التي أصبحت رموزا للوفاء و الإخلاص ومستودعات للشعر
الجميل الذي لا يزال زاخرا في الفصاحة والبلاغة و مرتعـا خصبا للبحث و الدراسة ..
عندما يقرأ الباحث تلك القصص و يمُرّ على الشعر الذي قاله الحبيبان يعجب من مدى تعلـّـُق كل منهما بالآخر و مدى التفاني فداءً لذلك الحب مقارنـًا أحبّـة الزمن الغابر بأحبـّة الزمن الحاضر .
و في عجالة من السطور سأسرد لكم قصة من قصص حب هذا الزمان فيها بعض الرمزية الخفيفة في الكلمات و العبارات ، ربما تصلح للقراءة في مثل هذه الليالي الباردة من شهر ديسمبر ، وهي قصة :
( كيس و ليلـة )
كان ( كيس ) شابا وجيهـًا في أهلـه ، وسيمًا يحبّ أن يلبس الربْطة مَرخيّة قليلا
حول عنقـَه ، ممتلىء الجسم ، قوي البُـنية . عاش مُـدلـّلا ً عند والديـه ، واصلا
لأخواته و إخوته .
التقى صُدفـة ً بـ ( ليلـة ) فبهره جمالها : سمراء ، رشيقة القوام ، تعشق السـهر
و المرح و الأدب . أصدقاؤها من حولها ينتظرون رؤيتها للإستماع إلى حديثها
و كان (كيس) ذات مرة ٍ واحدًا منهم . عشِقَ (كيسٌ) (ليلـة) و أخذ يتردد على
صالونها الأدبي مُغدقا المال الوفير عليها وعلى روّاد الصالون بينما تـُوفـّرُ له
(ليلـة) دائما أريكة خاصة للجلوس و تخُصّـُه بحديثها العذب و بما تحفظه من
شعر الأولين في قصص الحب العذري و مدى إخلاص أطرافه .
عندما رأت (ليلة ُ) (كيسـًا) لأول مرة أ ُعجبتْ بشخصيته : شابٌ ثريّ ، كريمٌ
و ذو جاذبية ، يحترمه كل من حوله ، و يتمنى الكثيرون صُحبتـهُ و نيلَ بعض
رضاه ! و هكذا ظهرَتْ على الإثنين بوادرُ مَيل ٍ خفيّ ظنـّه (كيس) حـُبّـًا عندما
بدأ كل منهما يستلطف الآخر .. يعرض (كيسٌ) ماله بسـَخاء ، و تغريه
( ليلة) بجمالها و مكانتها و حديثهـا و صالونها الذي كان يقضي به (كيسٌ)
معظم سهراته . ولكن هل كان الإعجاب ، أو قـُل الحبُّ ، خالصـًا و خال ٍ
من المصلحة كالحب في قصص الأوّلـِين مثلا ؟ .. لقد مرّ على (ليلة) ما
يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة مثل (كيس) ، فهل سيكون (كيس) واحدا
مثلهم أم سيـمـِيزُ عنهم ؟ ...بدأ (كيسٌ) يُسـطـّر ، كعادة العشاق ، بعض أبيات
الشـِعر في دفتره و مما كتبه :
لا يعرفُ الحُبَّ إلا مَنْ رأى (ليلة ً) : و َ(الكيسُ) أضحى بمحراب الهوى عَابـِدا
و مرّ زمانٌ .. شعَر والد (كيس) بعده بأنّ ابنه أصبح يعود للبيت متأخرًا ، و أنّه
بدأ يصيبه بعض الشرود و الهزال ، فأدرك الموقف ثم نصَحَ ابنـَه قائلا :
يا (كيسُ) ما أبلى فؤادَك ؟ فالهَــوى : في هـــذه الأيـّـام مَحضُ منـافـِـع ِ
واحرصْ، حماك اللـه ، يا ولدي فكم : من راشـــد ٍ ذلَّ الغـرام ُ و يافـِع ِ
و العشقُ لا يعني السعــادة َ لامرىء ٍ : إنْ كنتَ مغرورًا ، وليس بدافـِـع ِ
عنكَ الليالي المُظلماتِ ، فـشـَرْعُها : لا تـُجزىءُ المُضنى شفاعة ُ شافـِع
كان (كيسُ) على درجة من فهم معاني الشعر ، عَرفَ مقصـد والده فأراد
أن يختبر مدى حُب (ليلة) له . لبس (كيس) ملابسه القديمة و تظاهر
بالمرض ثم ذهب إلى حيث يسهر الأصدقاء . جلس إلى أريكته المعهودة
و لم يلبث أن تجمّع حوله الأصحاب و بعد قليل حضرتْ (ليلة) بثوب
سهرتها الجميل و انتظرالجميع أن يبادر (كيس) ، و كالعادة ، بمفاجـأة
ضيوفه بما لذ َّ و طاب من الطعام والشراب و الهدايا .. غير أن (كيسـًا)
لم يفعل ، بل أعلمَ الجميع بأنه واقعٌ في ضائقة ٍ يحتاج على أثرها لبعض
المال ! نظرتْ (ليلـة) إلى (كيس) نظرة ً لم يعهدْهـا من قبل ثم قالت
غـامزة :
نحن الليالي السّـُمْرُ يهوانا الذهبْ : فليَعْـــلم ِ الأحبـابُ مِنـَّا مــا الأرَبْ
قد كنتَ يا ( كيسٌ ) عزيزًا عندنـا: فاضتْ بأيديــكَ الهدايـــا و العـُـلـَبْ
لكنـَّنا و الحـالُ صعبٌ هــا هُنـا : قد جئتَ في وقتٍ عَصيبٍ للصـَّحـَبْ
ياليتــها الأيّــام تـَبقــى حـُلـَّـــــة ً : فضفاضَة َالأكـْمَــام يَعلوها القصَبْ
فأجابها (كيس) و قد صـُـدِمَ لقولها الذي لم يتوقعـه :
ياليتَ شِـعــري هل درَى : ( قيسٌ ) بـِـوادي ذي القـُرى
أنّ الهـــوى فــي يومنــــا: وَهـْـم ٌ وَضِـيــعٌ يُــفـْـتــرى
أوّاهُ يــا (بـِشْـــرُ) فكــَـمْ : صُنـتَ المعالي في الـذ ُرى
الآنَ يا (لـُبنى) اعْلـَمِي : حـُـبّ ٌ بـفـِلـس ٍ يُشـْتــَـرى ؟
يا (عـَزّ ُ) نادي شـَيخـَكِ : يا (عَـبـْـلُ) هـاتِي عَـنـْـتـرا
هل حُبـّـُكم صدقـًا جَرَى: أم كــان زيْــفــًـا يا تـُــرى ؟
نهض (كيسٌ) من مقعده ثم خرج راسِمـًا على محـيّـاه ابتسامة ً ساخرة ًً
بعد أن كاد هوى (ليلـة) يجلب له الوبال ..
و هناك من شـُبـّاك غرفته أطلَّ إلى البعيد مـُحدّثـًا نفسه : ولكن!!
كيف توصّلَ والدي إلى تلك الحكمة ..؟
*********